سورة المائدة - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{ياأيّها الّذين آمنوا لا تحرّموا طيّباتِ مآ أحلّ اللّه لكم} ما طاب ولذ من الحلال. ومعنى {لا تحرموا} لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم، أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الدجاج والفالوذ وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال: «إن المؤمن حلو يحب الحلاوة» وعن الحسن أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السنجي وأصحابه فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك، فاعتزل فرقد ناحية فسأل الحسن: أهو صائم؟ قالوا: لا ولكنه يكره هذه الألوان، فأقبل الحسن عليه وقال: يا فريقد أترى لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم؟ وعنه أنه قيل له: فلان لا يأكل الفالوذ ويقول لا أؤدي شكره. فقال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا: نعم. قال: إنه جاهل أن نعمة الله عليه في الماء البارد أكبر من نعمته عليه في الفالوذ. {ولا تعتدوا} ولا تجاوزوا الحد الذي حد عليكم في تحليل أو تحريم، أو ولا تتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات {إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين} حدوده.
{وكلوا ممّا رزقكم اللّه حلالاً طيّباً} {حلالاً} حال {مما رزقكم الله} {واتّقوا اللّه} توكيد للتوصية بما أمر به وزاده توكيداً بقوله {الّذي أنتم به مؤمنون} لأن الإيمان به يوجب التقوى فيما أمر به ونهى.
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِي أيمانكم} اللغو في اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم، وهو أن يحلف على شيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن، وكانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظن أنه قربة فلما نزلت تلك الآية قالوا: فكيف أيماننا؟ فنزلت. وعند الشافعي رحمه الله ما يجري على اللسان بلا قصد {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} أي بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها. وبالتخفيف: كوفي غير حفص. والعقد: العزم على الوطء، وذا لا يتصور في الماضي فلا كفارة في الغموس. وعند الشافعي رحمه الله القصد بالقلب ويمين الغموس مقصودة فكانت معقودة فكانت الكفارة فيها مشروعة. والمعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فخذف وقت المؤاخذة لأنه كان معلوماً عندهم، أو بنكث ما عقدتم فحذف المضاف {فَكَفَّارَتُهُ} أي فكفارة نكثه أو فكفارة معقود الأيمان. والكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين} هو أن يغديهم ويعشيهم، ويجوز أن يعطيهم بطريق التمليك وهو لكل أحد نصف صاع من بر أوصاع من شعير أو صاع من تمر. وعند الشافعي رحمه الله مد لكل مسكين {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي غداء وعشاء من بر إذ الأوسع ثلاث مرات مع الإدام والأدنى مرة من تمر أو شعير {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} عطف على {إطعام} أو على محل {من أوسط}، ووجهه أن {من أوسط} بدل من {إطعام} والبدل هو المقصود في الكلام وهو ثوب يغطي العورة.
وعن ابن عمر رضي الله عنه: إزار وقميص ورداء {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مؤمنة أو كافرة لإطلاق النص، وشرط الشافعي رحمه الله الإيمان حملاً للمطلق على المقيد في كفارة القتل. ومعنى {أو} التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} إحداها {فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ} {متتابعة} لقراءة أبيّ وابن مسعود كذلك {ذلك} المذكور {كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ} وحنثتم فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأن الكفارة لا تجب بنفس الحلف ولذا لم يجز التكفير قبل الحنث {واحفظوا أيمانكم} فبروا فيها ولا تحنثوا إذا لم يكن الحنث خيراً أو ولا تحلفوا أصلاً {كذلك} مثل ذلك البيان {يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} أعلام شريعته وأحكامه {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه.
{ياأيها الذين ءامَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر} أي القمار {والأنصاب} الأصنام لأنها تنصب فتعبد {والأزلام} وهي القداح التي مرت {رِجْسٌ} نجس أو خبيث مستقذر {مِّنْ عَمَلِ الشيطان} لأنه يحمل عليه فكأنه عمله. والضمير في {فاجتنبوه} يرجع إلى الرجس، أو إلى عمل الشيطان، أو إلى المذكور، أو إلى المضاف المحذوف كأنه قيل: إنما تعاطى الخمر والميسر ولذا قال: {رجس}. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أكد تحريم الخمر والميسر من وجوه حيث صدر الجملة بإنما وقرنهما بعبادة الأصنام ومنه الحديث: «شارب الخمر كعابد الوثن» وجعلهما رجساً من عمل الشيطان ولا يأتي منه إلا الشر البحت، وأمر بالاجتناب، وجعل الاجتناب من الفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خساراً {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} ذكر ما يتولد منهما من الوبال وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمر، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة، وخص الصلاة من بين الذكر لزيادة درجتها كأنه قال: وعن الصلاة خصوصاً. وإنما جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولاً ثم أفردهما آخراً، لأن الخطاب مع المؤمنين وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر، وذكر الأنصاب والألزام لتأكيد تحريم الخمر والميسر وإظهار أن ذلك جميعاً من أعمال أهل الشرك فكأنه لا مباينة بين عابد الصنم وشارب الخمر والمقامر، ثم أفردهما بالذكر ليعلم أنهما المقصود بالذكر {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} من أبلغ ما ينهى به كأنه قيل: قد تُلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والزواجر فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا} وكونوا حذرين خاشعين لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} عن ذلك {فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} أي فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه.
ونزل فيمن تعاطى شيئاً من الخمر والميسر قبل التحريم.
{لَيْسَ عَلَى الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} أي شربوا من الخمر وأكلوا من مال القمار قبل تحريمهما {إِذَا مَا اتقوا} الشرك {وَءامَنُواْ} بالله {وَعَمِلُواْ الصالحات} بعد الإيمان {ثُمَّ اتَّقَواْ} الخمر والميسر بعد التحريم {وَءَامَنُواْ} بتحريمهما {ثُمَّ اتَّقَواْ} سائر المحرمات، أو الأول عن الشرك والثاني عن المحرمات والثالث عن الشبهات {وَأَحْسَنُواْ} إلى الناس {والله يُحِبُّ المحسنين}.
ولما ابتلاهم الله بالصيد عام الحديبية وهم محرمون وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في زحالهم فيستمكنون من صيده أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم نزل:
{يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورماحكم} ومعنى يبلو يختبر وهو من الله لإظهار ما علم من العبد على ما علم لا لعلم ما لم يعلم، و{من} للتبعيض إذ لا يحرم كل صيد أو لبيان الجنس {لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب} ليعلم الله خوف الخائف منه بالامتناع عن الاصطياد موجوداً كما كان يعلم قبل وجوده أنه يوجد ليثيبه على عمله لا على علمه فيه {فَمَنِ اعتدى} فصاد {بَعْدَ ذَلِكَ} الابتلاء {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قلل في قوله {بشيء} من الصيد ليعلم أنه ليس من الفتن العظام {وتناله} صفة ل {شيء} {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد} أي المصيد إذ القتل إنما يكون فيه {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} أي محرمون جمع حرام كردح في جمع رداح في محل النصب على الحال من ضمير الفاعل في {تقتلوا} {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً} حال من ضمير الفاعل أي ذاكراً لإحرامه أو عالماً أن ما يقتله مما يحرم قتله عليه، فإن قتله ناسياً لإحرامه أو رمى صيداً وهو يظن أنه ليس بصيد فهو مخطئ. وإنما شرط التعمد في الآية مع أن محظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ، لأن مورد الآية فيمن تعمد، فقد رُوي أنه عَنَّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فقتله فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت. ولأن الأصل فعل المتعمد والخطأ ملحق به للتغليظ.
وعن الزهري: نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ. {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ} كوفي أي فعليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد وهو قيمة الصيد يقوّم حيث صيد، فإن بلغت قيمته ثمن هدي خيّر بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد، وبين أن يشتري بقيمته طعاماً فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوماً. وعند محمد والشافعي رحمهما الله تعالى مثله نظيره من النعم، فإن لم يوجد له نظير من النعم فكما مر.
{فجزاء مثل} على الإضافة: غيرهم. وأصله فجزاء مثل ما قتل أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل، ثم أضيف كما تقول (عجبت من ضرب زيداً ثم من ضرب زيد). {مِنَ النعم} حال من الضمير في {قتل} إذ المقتول يكون من النعم أو صفة ل {جزاء} {يَحْكُمُ بِهِ} بمثل ما قتل {ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} حكمان عادلان من المسلمين، وفيه دليل على أن المثل القيمة لأن التقويم مما يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة، ولأن المثل المطلق في الكتاب والسنة والإجماع مقيد بالصورة والمعنى، أو بالمعنى لا بالصورة، أو بالصورة بلا معنى، ولأن القيمة أريدت فيما لا مثل له صورة إجماعاً فلم يبق غيرها مراداً إذ لا عموم للمشترك. فإن قلت: قوله {من النعم} ينافي تفسير المثل بالقيمة. قلت: من أوجب القيمة خُير بين أن يشتري بها هدياً أو طعاماً أو يصوم كما خير الله تعالى في الآية، فكان من النعم بياناً للهدي المشتري بالقيمة في أحد وجوه التخيير، لأن من قوم الصيد واشترى بالقيمة هدياً فأهداه فقد جزى بمثل ما قتل من النعم، على أن التخيير الذي في الآية بين أن يُجزي بالهدي أو يكفر بالطعام أو الصوم، إنما يستقيم إذا قوم ونظر بعد التقويم أي الثلاثة يختار، فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير، فإذا كان شيئاً لا نظير له قُوِّم حينئذ ثم يخير بين الطعام والصيام، ففيه نبّو عما في الآية ألا ترى إلى قوله {أوكَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً} كيف خير بين الأشياء الثلاثة ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم {هَدْياً} حال من الهاء في {به} أي يحكم به في حال الهدي {بالغ الكعبة} صفة ل {هدياً} لأن إضافته غير حقيقية. ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم، فأما التصدق به فحيث شئت. وعند الشافعي رحمه الله: في الحرم {أَوْ كَفَّارَةٌ} معطوف على {جزاء} {طَعَامٌ} بدل من {كفارة} أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام. {أو كفارة طعام} على الإضافة: مدني وشامي. وهذه الإضافة لتبيين المضاف كأنه قيل: أو كفارة من طعام {مساكين} كما تقول: {خاتم فضة} أي خاتم من فضة {أَو عَدْلُ} وقرئ بكسر العين.
قال الفراء: العدل ما عادل الشيء من غير جنسه كالصوم والإطعام، والعدل مثله من جنسه ومنه (عدلا الحمل). يقال (عندي غلام عدل غلامك) بالكسر إذا كان من جنسه، فإن أريد أن قيمته كقيمته ولم يكن من جنسه قيل (هو عَدل غلامك) بالفتح {ذلك} إشارة إلى الطعام {صِيَاماً} تمييز نحو (لي مثله رجلاً) والخيار في ذلك إلى القاتل، وعند محمد رحمه الله إلى الحكمين {لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} متعلق بقوله {فجزاء} أي فعليه أن يجازي أو يكفر ليذوق سوء عقاب عاقبة هتكه لحرمة الإحرام. والوبال المكروه والضرر الذي ينال في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه من قوله تعالى: {فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً} [المزمل: 16] أي ثقيلاً شديداً. والطعام الوبيل الذي يثقل على المعدة فلا يستمرأ. {عَفَا الله عَمَّا سَلَفَ} لكم من الصيد قبل التحريم {وَمَنْ عَادَ} إلى قتل الصيد بعد التحريم أو في ذلك الإحرام {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} بالجزاء وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه {والله عَزِيزٌ} بإلزام الأحكام {ذُو انتقام} لمن جاوز حدود الإسلام.


{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر} مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل {وَطَعَامُهُ} وما يطعم من صيده. والمعنى: أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده {متاعا لَّكُمْ} مفعول له أي أحل لكم تمتيعاً لكم {وَلِلسَّيَّارَةِ} وللمسافرين. والمعنى: أحل لكم طعامه تمتيعاً لتُنّائكم يأكلونه طرياً ولسيارتكم يتزودونه قديداً كما تزود موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر. {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر} ما صيد فيه وهو ما يفرخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كالبط فإنه بري لأنه يتولد في البر والبحر له مرعى كما للناس متجر {مَا دُمْتُمْ حُرُماً} محرمين {واتقوا الله} في الاصطياد في الحرم أو في الإحرام {الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
تبعثون فيجزيكم على أعمالكم.
{جَعَلَ الله الكعبة} أي صير {البيت الحرام} بدل أو عطف بيان {قِيَاماً} مفعول ثانٍ أو {جعل} بمعنى {خلق} و{قياماً} حال {لِلنَّاسِ} أي انتعاشاً لهم في أمر دينهم ونهوضاً إلى أغراضهم في معاشهم ومعادهم لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وأنواع منافعهم. قيل: لو تركوه عاماً لم ينظروا ولم يؤخروا {والشهر الحرام} والشهر الذي يؤدي فيه الحج وهو ذو الحجة لأن في اختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه شأناً قد علمه الله، أو أريد به جنس الأشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. {والهدى} ما يهدى إلى مكة {والقلائد} والمقلد منه خصوصاً وهو البدن فالثواب فيه أكثر وبهاء الحج معه أظهر {ذلك} إشارة إلى جعل الكعبة قياماً أو إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره {لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الأرض وَأَنَّ الله بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي لتعلموا أن الله يعلم مصالح ما في السموات وما في الأرض وكيف لا يعلم وهو بكل شيء عليم {اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} لمن استخف بالحرم والإحرام {وَأَنَّ الله غَفُورٌ} لآثام من عظم المشاعر العظام {رَّحِيمٌ} بالجاني الملتجئ إلى البلد الحرام {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} تشديد في إيجاب القيام بما أمر به، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} فلا يخفى عليه نفاقكم ووفاقكم.
{قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب} لما أخبر أنه يعلم ما يبدون وما يكتمون ذكر أنه لا يستوي خبيثهم وطيبهم بل يميز بينهما، فيعاقب الخبيث أي الكافر ويثيب الطيب أي المسلم {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث فاتقوا الله} وآثروا الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر.
وقيل: هو عام في حلال المال وحرامه وصالح العمل وطالحه وجيد الناس ورديئهم.
{ياأولي الألباب} أي العقول الخالصة {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء امتحاناً فنزل:
{يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَسْئَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ} قال الخليل وسيبويه وجمهور البصريين: أصله {شيئاء} بهمزتين بينهما ألف وهي فعلاء من لفظ شيء وهمزتها الثانية للتأنيث ولذا لم تنصرف ك (حمراء) وهي مفردة لفظاً جمع معنى، ولما استثقلت الهمزتان المجتمعتان قدمت الأولى التي هي لام الكلمة فجعلت قبل الشين فصار وزنها (لفعاء)، والجملة الشرطية والمعطوفة عليها أي قوله {إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْئَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرءان تُبْدَ لَكُمْ} صفة ل {أشياء} أي وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي وهو ما دام الرسول بين أظهركم {تبد لكم} تلك التكاليف التي تسوؤكم أي تغمكم وتشق عليكم وتؤمرون بتحملها فتعرضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها {عَفَا الله عَنْهَا} عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} لا يعاقبكم إلا بعد الإنذار. والضمير في {قَدْ سَأَلَهَا} لا يرجع إلى {أشياء} حتى يعدى ب {عن} بل يرجع إلى المسألة التي دلت عليها {لا تسألوا} أي قد سأل هذه المسألة {قَوْمٌ مّن قَبْلِكُمْ} من الأولين {ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا} صاروا بسببها {كافرين} كما عرف في بني إسرائيل.
{مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} كان أهل الجاهلية إذا انتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا إذنها أي شقوها وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى واسمها البحيرة. وكان يقول الرجل: إذا قدمت من سفري أو برأت من مرضي فناقتي سائبة وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها. وقيل: كان الرجل إذا أعتق عبداً قال: هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث. وكانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع ذكراً أكله الرجال، وإن كان أنثى أرسلت في الغنم، وكذا إن كان ذكراً وأنثى وقالوا: أوصلت أخاها فالوصيلة بمعنى الواصلة. وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى. ومعنى {ما جعل} ما شرع ذلك ولا أمر به {ولكن الذين كَفَرُواْ} بتحريمهم ما حرموا {يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} في نسبتهم هذا التحريم إليه {وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} أن الله لم يحرم ذلك وهم عوامهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول} أي هلموا إلى حكم الله ورسوله بأن هذه الأشياء غير محرمة {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا} أي كافينا ذلك، {حسبنا} مبتدأ والخبر {ما وجدنا} {وما} بمعنى {الذي} والواو في {أَوَ لَّوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ} للحال قد دخلت عليها همزة الإنكار وتقديره: أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم {لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} أي الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة {يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} انتصب {أنفسكم} ب {عليكم} وهو من أسماء الأفعال أي الزموا إصلاح أنفسكم.
والكاف والميم في {عليكم} في موضع جر لأن اسم الفعل هو الجار والمجرور لا على وحدها {لاَ يَضُرُّكُمْ} رفع على الاستئناف، أو جزم على جواب الأمر، وإنما ضمت الراء إتباعاً لضمة الضاد {مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العناد من الكفرة يتمنون دخولهم في الإسلام فقيل لهم: عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها لا يضركم الضّلاّل عن دينكم إذا كنتم مهتدين، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن تركهما مع القدرة عليهما لا يجوز. {إلى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} رجوعكم {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ثم يجزيكم على أعمالكم.
روي أنه خرج بديل مولى عمرو بن العاص وكان من المهاجرين مع عدي وتميم وكانا نصرانيين إلى الشام، فمرض بديل وكتب كتاباً فيه ما معه وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله. ومات ففتشا متاعه، فأخذا إناء من فضة فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل:
{يِأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ شهادة بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان} ارتفع {اثنان} لأنه خبر المبتدأ وهو {شهادة} بتقدير شهادة بينكم شهادة اثنين، أو لأنه فاعل {شهادة بينكم} أي فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان. واتسع في {بين} فأضيف إليه المصدر. {وإذا حضر} ظرف للشهادة و{حين الوصية} بدل منه، وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية لأن حضور الموت من الأمور الكائنة، {وحين الوصية} بدل منه فيدل على وجوب الوصية ولو وجدت بدون الاختيار لسقط الابتلاء فنقل إلى الوجوب، وحضور الموت مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل {ذَوَا عَدْلٍ} صفة ل {اثنان} {مِّنكُمْ} من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت {أو آخران} عطف على {اثنان} {مِنْ غَيْرِكُمْ} من الأجانب {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} سافرتم فيها. {وأنتم} فاعل فعل يفسره الظاهر {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت} أو منكم من المسلمين ومن غيركم من أهل الذمة. وقيل: منسوخ إذ لا يجوز شهادة الذمي على المسلم، وإنما جازت في أول الإسلام لقلة المسلمين {تَحْبِسُونَهُمَا} تقفونهما للحلف هو استئناف كلام أو صفة لقوله {أو آخران من غيركم} أي أو آخران من غيركم محبوسان، {وإن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} اعتراض بين الصفة والموصوف {مِن بَعْدِ الصلاة} من بعد صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس.
وعن الحسن رحمه الله: بعد العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما. وفي حديث بديل أنها لما نزلت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا بعديِّ وتميم فاستحلفهما عند المنبر فحلفا ثم وجد الإناء بمكة فقالوا: إنا اشتريناه من تميم وعدي. {فَيُقْسِمَانِ بالله} فيحلفان به {إِنِ ارتبتم} شككتم في أمانتهما وهو اعتراض بين {يقسمان} وجوابه وهو {لاَ نَشْتَرِي} وجواب الشرط محذوف أغنى عنه معنى الكلام والتقدير: إن ارتبتم في شأنهما فحلفوهما {بِهِ} بالله أو بالقسم {ثَمَناً} عوضاً من الدنيا {وَلَوْ كَانَ} أي المقسم له {ذَا قربى} أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ولو كان من نقسم له قريباً منا {وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله} أي الشهادة التي أمر الله بحفظها وتعظيمها {إنّآ إذاً} إن كتمنا {لَّمِنَ الآثمين}. وقيل: إن أريد بهما الشاهدان فقد نسخ تحليف الشاهدين، وإن أريد الوصيان فلم ينسخ تحليفهما.


{فَإِنْ عُثِرَ} فإن اطلع {على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً} فعل ما أوجب إثماً واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين {فئاخران} فشاهدان آخران {يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ} أي من الذين استحق عليهم الإثم، ومعناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته، وفي قصة بديل أنه لما ظهرت خيانة الرجلين حلف رجلان من ورثته إنه إناء صاحبهما وإن شهادتهما أحق من شهادتهما {الأولاين} الأحقان بالشهادة لقرابتهما أو معرفتهما. وارتفاعهما على {هما الأوليان} كأنه قيل: ومن هما؟ فقيل: الأوليان. أو هما بدل من الضمير في {يقومان} أو من {آخران}. {استحق عليهم الأوليان}. حفص أي من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين. {الأوَّلين}: حمزة وأبو بكر على أنه وصف للذين استحق عليهم مجرور أو منصوب على المدح. وسموا أولين لأنهم كانوا أولين في الذكر في قوله {شهادة بينكم} {فَيُقْسِمَانِ بالله لشهادتنا أَحَقُّ مِن شهادتهما} أي ليميننا أحق بالقبول من يمين هذين الوصيين الخائنين {وَمَا اعتدينا} وما تجاوزنا الحق في يميننا {إِنَّآ إِذاً لَّمِنَ الظالمين} أي إن حلفنا كاذبين {ذلك} الذي مر ذكره من بيان الحكم {أدنى} أقرب {أَن يَأْتُواْ} أي الشهداء على نحو تلك الحادثة {بالشهادة على وَجْهِهَا} كما حملوها بلا خيانة فيها {أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم} أي تكرر أيمان شهود آخرين بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور كذبهم {واتقوا الله} في الخيانة واليمين الكاذبة {واسمعوا} سمع قبول وإجابة {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} الخارجين عن الطاعة. فإن قلت: ما معنى {أو} هنا؟ قلت: معناه ذلك أقرب من أن يؤدّوا الشهادة بالحق والصدق، إما لله أو لخوف العار والافتضاح برد الأيمان، وقد احتج به من يرى ردّ اليمين على المدعي، والجواب أن الورثة قد ادّعوا على النصرانيين أنهما قد اختانا فحلفا، فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتما فأنكرت الورثة فكانت اليمين على الورثة لإنكارهما الشراء.
{يَوْمَ} منصوب ب {اذكروا} أو احذروا {يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} ما الذي أجابتكم به أممكم حين دعوتموهم إلى الإيمان؟ وهذا السؤال توبيخ لمن أنكرهم. {وماذا} منصوب ب {أجبتم} نصب المصدر على معنى أيَّ إجابة أجبتم {قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا} بإخلاص قومنا دليله {إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب} أو بما أحدثوا بعدنا دليله {كنت أنت الرقيب عليهم} أو قالوا ذلك تأدباً أي علمنا ساقط مع علمك ومغمور به فكأنه لا علم لنا {إِذْ قَالَ الله} بدل من {يوم يجمع} {ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى والدتك} حيث طهرتها واصطفيتها على نساء العالمين.
والعامل في {إِذْ أَيَّدتُّكَ} أي قويتك {نعمتي} {بِرُوحِ القدس} جبريل عليه السلام أيد به لتثبت الحجة عليهم، أو بالكلام الذي يحيا به الدين، وأضافه إلى القدس لأنه سبب الطهر من أو ضارم الآثام دليله {تُكَلّمُ الناس فِى المهد} حال أي تكلمهم طفلاً إعجازاً {وَكَهْلاً} تبليغاً {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ} معطوف على {إذ أيدتك} ونحوه {وإذ تخلق}. {وإذ تخرج}. {وإذ كففت}. {وإذ أوحيت} {الكتاب} الخط {والحكمة} الكلام المحكم الصواب {والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ} تقدر {مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} هيئة مثل هيئة الطير {بِإِذْنِى} بتسهيلي {فَتَنفُخُ فِيهَا} الضمير للكاف لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه، وكذا الضمير في {فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} وعطف {وَتُبْرِئ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي} على {تخلق} {وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى} من القبور أحياء {بِإِذْنِي} قيل: أخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية.
{وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إسراءيل عَنكَ} أي اليهود حين هموا بقتله {إِذْ جِئْتَهُمْ} ظرف ل {كففت} {بالبينات فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ساحر حمزة وعلي {وَإِذْ أَوْحَيْتُ} ألهمت {إِلَى الحواريين} الخواص أو الأصفياء {أن آمنوا} أي آمنوا {بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون} أي اشهد بأننا مخلصون من أسلم وجهه {إِذْ قَالَ الحواريون} أي اذكروا إذ {ياعيسى ابن مَرْيَمَ} {عيسى} نصب على اتباع حركته حركة الابن نحو (يا زيد بن عمرو) {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} هل يفعل أو هل يطيعك ربك إن سألته، فاستطاع وأطاع بمعنى كاستجاب وأجاب. هل تستطيع ربك على أي هل تستطيع سؤال ربك فحذف المضاف، والمعنى: هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله {أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا} {ينزول}: مكي وبصري {مَآئِدَةً مِّنَ السمآء} هي الخوان إذا كان عليه الطعام من مادَه إذا أعطاه كأنها تميد من تقدم إليها {قَالَ اتقوا الله} في اقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إذ الإيمان يوجب التقوى.
{قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} تبركاً {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} ونزداد يقيناً كقول إبراهيم عليه السلام {ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} أي نعلم صدقك عياناً كما علمناه استدلالاً {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين} بما عاينا لمن بعدنا. ولما كان السؤال لزيادة العلم لا للتعنت {قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم} أصله (يا الله) فحذف (يَا) وعوض منه (الميم) {رَبَّنَا} نداء ثانٍ {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء تَكُونُ لَنَا عِيداً} أي يكون يوم نزولها عيداً.
قيل: هو يوم الأحد ومن ثم اتخذه النصارى عيداً، والعيد: السرور العائد ولذا يقال: {يوم عيد} فكان معناه: تكون لنا سروراً وفرحاً {لأَِوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا} بدل من {لنا} بتكرير العامل أي لمن في زماننا من أهل ديننا، ولمن يأتي بعدنا، أو يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم، أو للمتقدمين منا والأتباع {وآيةً مِنكَ} على صحة نبوّتي ثم أكد ذلك بقوله {وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين} وأعطنا ما سألناك وأنت خير المعطين {قَالَ الله إِنّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} بالتشديد: مدني وشامي وعاصم. وعد الإنزال وشرط عليهم شرطاً بقوله {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ} بعد إنزالها منكم {فَإِنّي أُعَذّبُهُ عَذَاباً} أي تعذيباً كالسلام بمعنى التسليم. والضمير في {لآَّ أُعَذِّبُهُ} للمصدر ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء {أَحَداً مِّنَ العالمين} عن الحسن أن المائدة لم تنزل ولو نزلت لكانت عيداً إلى يوم القيامة لقوله: {وآخرنا}. والصحيح أنها نزلت. فعن وهب نزلت مائدة منكوسة تطير بها الملائكة عليها كل طعام إلا اللحم. وقيل: كانوا يجدون عليها ما شاءُوا. وقيل: كانت تنزل حيث كانوا بكرة وعشياً.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6